قصص وحكم.. حكاية السياسي الجريء: كيف اكتشف الملك أسرار ماضيه المظلم
دخل رجل غريب إلى إحدى البلدات وهو ينادي بصوت عالٍ: “أنا سياسي أحل المشكلات بين الدول، وبين القبائل، وبين الشخصيات… أنا سياسي!” سمع الملك، وهو جالس في قصره، هذا النداء، فأمر رجاله قائلاً: “آتوني بهذا المنادي.” جاء الرجل الغريب إلى القصر وبعد التحية والسلام، سأله الملك: “أنت سايس؟” أي تربي الخيل وتعتني بشؤونها؟
رد السياسي: “لا، يا مولاي، أنا سياسي.”
قال الملك: “لا، لقد سمعت أنك سايس، واليوم تم تعيينك عندنا سايسًا للخيل. لدي فرس أحبها، وأريدك أن تهتم بها.”
اعترض السياسي قائلاً: “أنا لست سايسًا، يا مولاي، أنا سياسي.”
رد الملك بلهجة صارمة: “قلت لك إنك سايس، وإلا أعدمتك.” وخوفًا من الإعدام، امتثل الرجل لأمر الملك وتسلم الفرس من السايس السابق الذي حذره قائلاً: “هذه الفرس أعز على الملك من روحه، فاحذر أن تخبره بعيوبها، وإلا أعدمك.”
نادى الملك على خدمه وأمرهم قائلاً: “جهزوا لهذا الرجل غرفة وفراشًا، وقدموا له ثلاث وجبات من مرق وأرز يوميًا ليباشر عمله في رعاية الفرس.”
بدأ الرجل السياسي عمله كسائس للفرس، واستمر في هذا العمل لمدة عشرين يومًا، لكنه في النهاية قرر الهرب خوفًا من رد فعل الملك. أمر الملك بالبحث عن الرجل وإحضاره، وعندما جاء به، سأله الملك: “لماذا هربت؟ هل وجدت عيبًا في الفرس؟”
قال الرجل متوسلًا: “مولاي، أعفني.”
أصر الملك: “أخبرني ماذا وجدت في الفرس، وإلا أعدمتك.”
طلب الرجل الأمان، فأعطاه الملك الأمان.
قال الرجل: “هذه الفرس أصيلة، ولكن من قال لك إنها رضعت من أمها فقد كذب عليك.”
غضب الملك وحمل سيفه ليقطع رأس الرجل وقال: “كيف تقول إن فرسي لم ترضع من أمها؟” وأمر بسجنه.
بعد ذلك، أرسل الملك في طلب الوزير الذي أهداه الفرس وسأله: “كيف تعطيني هذه الفرس وهي لم ترضع من أمها الأصيلة؟”
اعتذر الوزير وقال: “مولاي، سامحني. لقد ماتت أمها عند ولادتها، ولم يكن لدي سوى بقرة واحدة، فأرضعتها.”
أمر الملك بإطلاق سراح الرجل وسأله: “كيف عرفت أن الفرس لم ترضع من أمها؟”
قال الرجل: “الفرس الأصيلة عادةً ما تأكل في معلف أو تعليقه في رقبتها وهي مرفوعة الرأس، أما فرسك، يا مولاي، فإنها تبحث عن الطعام على الأرض مثل البقر.”
أعجب الملك بذكاء الرجل وقال للخدم: “أطعموا الرجل دجاجًا واعتنوا به جيدًا.”
ثم قال الملك للرجل: “هذه المرة، أريدك أن تسوس الملكة.”
حاول الرجل التملص وقال: “مولاي، أعفني جزاك الله خيرًا.”
لكن الملك أصر وأمره بتنفيذ الأوامر. توجه الخدم للملكة وأخبروها أن خادمًا جديدًا سيكون في خدمتها ومستشارًا لها بأمر الملك.
مرت الأيام، وجاء الملك وسأل الرجل: “قل لي ماذا وجدت في الملكة؟”
توسل الرجل مرة أخرى أن يُعفى، لكن الملك أصر وأعطاه الأمان.
قال الرجل: “إنها تربية ملوك، وشرف ملوك، وأخلاق ملوك، وكرم ملوك، لكن من قال لك إنها بنت ملوك فقد كذب عليك.”
ثار الملك وغضب وأمر بسجن الرجل وقطع الطعام عنه. ثم ذهب إلى أم الملكة وأبيها، وهددهم بالسيف ليسألهم عن الحقيقة.
قالا له: “مولاي، لقد كانت ابنتنا لك، وهذا كان اتفاقًا بيني وبين أبيك منذ كان عمرها سنتين. لكن أصابت ابنتنا الحصبة وماتت، وفي هذا الوقت أمر أبوك بإجلاء الغجر من المنطقة. وجدت طفلة صغيرة عمرها عامان قرب الوتد، فأخذتها وربيتها.”
عاد الملك إلى الرجل في السجن وسأله: “كيف عرفت سر الملكة؟”
قال الرجل: “لها غمزة بعينها، وهذه من عادات الغجر يتغامزون بها عندما يتحدثون.”
اندهش الملك وقال للخدم: “أطعموه خروفًا في الصباح وآخر في الغداء وثالثًا في العشاء.”
وأخيرًا، طلب الملك من الرجل أن يسوسه هو شخصيًا، وهنا اضطربت فرائص الرجل وارتجف، لكنه لم يجد وسيلة للهرب.
هرب الرجل من ليلته خوفًا من المصير الذي ينتظره، لكن الملك أمر بالبحث عنه وإحضاره. وعندما أُحضر الرجل، قال له الملك: “أخبرني بما عرفته عني، وإلا أعدمتك.”
طلب الرجل الأمان مجددًا، فأعطاه الملك الأمان. فقال الرجل: “يا مولاي، من قال لك إنك ابن ملك فقد كذب عليك. يجب أن تبحث عن أصلك.”
ذهل الملك من كلام الرجل، وأسرع إلى أمه يسألها بإلحاح: “أنا ابن من؟” واستحلفها أن تقول الحقيقة.
تنهدت أمه وقالت: “كان أبوك ملكًا ظالمًا لا ينجب، وقد تزوج العديد من النساء، وبعد مرور تسعة أشهر، إن لم تُنجب الزوجة، كان يقتلها. هكذا استمر الأمر حتى قضى على نصف بنات البلدة. وعندما جاء دوري، لم يكن لدي خيار سوى أن أنجو بحياتي. في القصر كان هناك طباخ، وعندما لم أستطع الإنجاب، لجأت إليه، وكنتِ أنت ابنه.”
عاد الملك إلى الرجل وقال له: “كيف عرفت حقيقتي؟”
أجاب الرجل: “يا مولاي، من المعروف أن الملوك يمنحون الذهب والفضة لمن يرضون عنهم، أما أنت فكنت تمنح مرقًا وأرزًا ولحمًا ودجاجًا. الذي يرافق الطباخ، إن رضي عليه، يمنحه الطعام، وإن غضب، يمنعه.”
أُعجب الملك بحكمة الرجل ودهائه، وأدرك أن خلف كل كلمة قالها هذا السياسي قصة خفية ومغزى عميق.
شعر الملك بالخجل من ماضيه ومن حقيقته، لكن في الوقت ذاته أدرك أن هذه الصراحة هي ما جعله يواجه الحقيقة ويكتشف الأسرار المدفونة في حياته وفي مملكته.
قرر الملك أن يمنح الرجل منصب المستشار الأول له، وأصبح السياسي معروفًا في البلدة كلها بذكائه وقدرته على رؤية ما لا يراه الآخرون. بات الرجل ذا سمعة قوية، يُستدعى في المشكلات الكبيرة ليس فقط لحلها، بل أيضًا لاكتشاف ما وراءها من حقائق قد لا يجرؤ أحد على الكشف عنها.
وهكذا تعلم الملك درسًا مهمًا عن الشفافية والتواضع أمام الحقيقة، مهما كانت قاسية أو غير متوقعة.