
على مدار التاريخ، انشغل الفلاسفة بسؤال جوهري: ما طبيعة الإنسان؟
هل هو كائن متحضّر تجاوز غرائزه البدائية، أم أن تلك الغرائز لا تزال كامنة في داخله، تنتظر فقط اللحظة المناسبة للظهور؟
هذا السؤال لم يُطرح هذه المرة في كتاب فلسفي أو مناظرة أكاديمية، بل على خشبة عرض فني حي، قادته الفنانة الصربية مارينا أبراموفيتش، في تجربة صادمة عُرفت باسم Rhythm 0 – الإيقاع صفر، والتي تحولت لاحقًا إلى واحدة من أكثر الأعمال الفنية إثارة للجدل في القرن العشرين.
في عام 1974، وقفت امرأة واحدة في قاعة عرض بمدينة نابولي، وقدّمت جسدها للجمهور بلا شروط. بعد ست ساعات، خرج السؤال الأكبر: هل الحضارة قناع هش؟
مارينا أبراموفيتش: الفن كاختبار أخلاقي
وُلدت مارينا أبراموفيتش عام 1946 في صربيا، وبرزت منذ بداياتها كإحدى رائدات فن الأداء المعاصر. لم يكن اهتمامها منصبًا على الشكل الجمالي بقدر ما كان موجهًا إلى مفاهيم أعمق، أبرزها علاقة الفنان بالجمهور، وحدود الجسد، وقدرة الإنسان على تحمّل الألم النفسي والجسدي.
خلال سبعينيات القرن الماضي، نفذت أبراموفيتش سلسلة من العروض التفاعلية التي جعلت الجمهور جزءًا من العمل الفني نفسه. وكان “الإيقاع صفر” هو أكثرها خطورة وجرأة.

الإيقاع صفر: ست ساعات بلا مقاومة
أُقيم العرض في نابولي عام 1974، واستمر لمدة ست ساعات متواصلة.
في بداية العرض، وضعت أبراموفيتش أمام الجمهور طاولة تحتوي على 72 أداة، تراوحت بين عناصر سلمية مثل الورود والعطور، وأدوات خطرة مثل السكاكين والمطارق والمسدس المحشو.
وقدّمت للجمهور تعليمات واضحة:
“يمكنكم استخدام أي أداة على الطاولة كما تشاؤون.
أنا الهدف.
أتحمل المسؤولية كاملة.”
ثم وقفت صامتة، دون حركة أو رد فعل، واضعة جسدها بالكامل تحت تصرف الجمهور.
من الفضول إلى العنف
في الساعات الأولى، بدت تصرفات الجمهور هادئة نسبيًا؛ قدّم بعضهم الورود، ولم تتجاوز الأفعال حدود الفضول. لكن المشهد تغيّر تدريجيًا، خصوصًا بعد أن قام أحد الحاضرين بصفع أبراموفيتش، دون أن تُبدي أي رد فعل.
مع إدراك الجمهور لغياب العواقب، تصاعد السلوك العنيف.
تم تمزيق ملابسها، جُرحت رقبتها بسكين، وتعرضت لتحرش واعتداء جسدي. كما التُقطت لها صور عارية وأُلصقت على جسدها، قبل أن يتم وضع مسدس محشو في يدها، وتوجيهه إلى رأسها مع وضع إصبعها على الزناد.
طوال ذلك، التزمت أبراموفيتش الصمت الكامل، ولم تظهر عليها علامات مقاومة، باستثناء لحظة واحدة حين اغرورقت عيناها بالدموع أمام خطر الموت المباشر.

انقسام الجمهور ونهاية العرض
بحسب الناقد الفني توماس ماك إيفيلي، الذي كان حاضرًا أثناء العرض، انقسم الجمهور في لحظاته الأخيرة إلى فريقين: أحدهما واصل الاعتداء، والآخر حاول التدخل لإيقاف ما يحدث. وتحوّل الصراع من اعتداء على الفنانة إلى صدام بين الحضور أنفسهم، وهو ما أدى فعليًا إلى إنهاء العرض قبل اكتمال مدته.
عندما استعادت إنسانيتها
مع انتهاء العرض وتحرك أبراموفيتش للمرة الأولى، فوجئ الحاضرون بتحولها من “موضوع” صامت إلى إنسانة حقيقية. حينها، غادر معظم الجمهور القاعة على الفور، متجنبين مواجهتها أو النظر إليها، في مشهد وصفته الفنانة لاحقًا بأنه لحظة مواجهة قاسية للذنب والخوف.
وفي تصريحات لاحقة، قالت أبراموفيتش:
“ما تعلمته من هذا العرض أن الفنان يمكنه الذهاب بعيدًا في أدائه، لكن حين تترك القرار للجمهور، قد تصل إلى حد القتل.”

آثار لم تمحها السنوات
لم تنتهِ التجربة بانتهاء العرض. فقد ترك “الإيقاع صفر” آثارًا نفسية وجسدية عميقة على الفنانة؛ حيث لاحظت بعد العرض أن جزءًا من شعرها قد أصبح أبيض، ولا تزال حتى اليوم تعاني من ندوب جسدية ونفسية نتيجة ما حدث.
ورغم نجاح التجربة فنيًا، صرّحت أبراموفيتش لاحقًا أنها أدركت خطورة تعريض حياتها للخطر، وأنها لن تكرر تجربة مشابهة مرة أخرى.

سؤال مفتوح
لماذا تصرّف الجمهور بتلك الوحشية؟
هل كان الأمر نتيجة طبيعة إنسانية كامنة، أم لأن غياب المحاسبة كشف جانبًا مظلمًا ظل مختبئًا خلف مظاهر التحضّر؟
يبقى “الإيقاع صفر” أكثر من مجرد عرض فني؛
إنه شهادة حيّة على هشاشة الأخلاق الإنسانية، حين تُرفع القيود، ويُترك الإنسان وحده أمام غرائزه.
— نُشر لأغراض ثقافية وتحليلية
مضمون دوت كوم | maadmon.com





